
تصريحات مثيرة للجدل حول الاستعمار الفرنسي في الجزائر
أحدث الصحفي الفرنسي المخضرم جان ميشيل أباتي عاصفة من الجدل بتصريحاته التي وصف فيها الجرائم التي ارتكبتها فرنسا خلال استعمارها للجزائر بأنها صادمة بقدر فظائع النازية. ورغم الانتقادات الشديدة التي تعرض لها، فقد دافع عن موقفه بشدة، مؤكدًا أن ما فعلته فرنسا كان من أكثر الفصول المروعة في تاريخها، وأن تجاهله أو إنكاره لا يغير من فداحته.
“لقد صدمتُ، لكن الحقيقة أقسى”
في مقابلة مطولة، كشف أباتي أنه أدرك تمامًا أن كلماته ستثير ردود فعل غاضبة، لكنه أصرّ على ضرورة الاعتراف بالماضي الاستعماري لفرنسا بكل وحشيته. وقال:
“أعلم أنني صدمتُ الكثيرين، لكن عندما قرأتُ عن ما حدث في الجزائر، كنت أنا نفسي في حالة صدمة. لم أستطع أن أصدق حجم العنف المنهجي الذي مارسته فرنسا، وكيف تم محو قرى بأكملها، وقتل المدنيين بوحشية. كيف يمكن أن يظل كل هذا مطويًا في صفحات التاريخ دون أن نواجهه؟”
وأضاف:
“نحن، كفرنسيين، نحب الحديث عن الحرية والعدالة، لكننا نرفض النظر إلى الفظائع التي ارتكبناها. نحب أن ننتقد جرائم الآخرين، لكن عندما يتعلق الأمر بنا، نصبح في حالة إنكار جماعي. هذا هو ما يصدمني أكثر من أي شيء آخر.”
من التقدير للجنرال ديغول إلى مواجهة تاريخ فرنسا الاستعماري
جان ميشيل أباتي، الذي طالما أعرب عن إعجابه بشخصية الجنرال شارل ديغول، لم يكن دائمًا مهتمًا بالشأن الجزائري. فقد أوضح أنه في بداية حياته المهنية، كان ينظر إلى السياسة الفرنسية من منظور داخلي، دون التطرق إلى الإرث الاستعماري. لكنه لاحقًا بدأ في استكشاف هذه الحقبة التاريخية، وكانت المفاجأة قاسية.
“كنت أرى في ديغول رجل دولة استثنائيًا، وكنت مفتونًا بطريقة عودته إلى السلطة في 1958، لكن عندما أدركتُ أن الجزائر كانت محور هذه العودة، بدأت في البحث أكثر عن الحرب الجزائرية. وكلما قرأت، كلما ازداد شعوري بالصدمة. كيف كان يمكن لشخص مثل ديغول، الذي قاوم النازية، أن يكون مسؤولًا عن مثل هذا العنف؟”
وأوضح أباتي أن رحلته لاكتشاف التاريخ الحقيقي للاستعمار الفرنسي في الجزائر استغرقت سنوات، وأنه لم يكن مستعدًا في البداية لتقبل الحقائق الصادمة التي وجدها.
“في البداية، كنت مترددًا في تصديق كل ما قرأته. كنت أقول لنفسي: لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا. لكن عندما تضع الشهادات التاريخية جنبًا إلى جنب، يصبح من المستحيل تجاهل الحقيقة.”
ردود الفعل العنيفة: صدمة في الإعلام والسياسة الفرنسية
لم تمر تصريحات أباتي مرور الكرام، فقد أثارت عاصفة من الغضب بين السياسيين والإعلاميين في فرنسا. بعضهم اعتبره متطرفًا في رأيه، بينما وصفه آخرون بأنه يهاجم تاريخ فرنسا بشكل غير مبرر.
فلورنس بورتيلي، رئيسة بلدية تافيرني، قالت:
“هذه المقارنة بين ما فعلته فرنسا وما فعله النازيون هي أمر غير مقبول على الإطلاق. إنها إهانة لتاريخنا وللجنود الفرنسيين الذين خدموا بلادهم.”
أما الصحفي توماس سوتو، فقد عبر عن استغرابه من تصريحات أباتي، قائلًا:
“لا يمكننا إنكار أن هناك تجاوزات حدثت خلال الاستعمار، لكن لا يمكننا أيضًا تشويه تاريخنا بهذا الشكل. هذه المقارنة غير دقيقة ومبالغ فيها.”
لكن في المقابل، كان هناك من دافع عن موقف أباتي. فقد اعتبر بعض المؤرخين أن تصريحاته ليست سوى انعكاس لحقيقة تاريخية حاولت فرنسا تجاهلها لعقود.
المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا، المتخصص في تاريخ الجزائر، قال في تعليق له:
“ما قاله أباتي ليس جديدًا بالنسبة للمؤرخين، لكنه جديد في الإعلام الفرنسي. المشكلة أن الاعتراف بهذه الحقائق لا يزال أمرًا صعبًا على المستوى السياسي.”
أباتي يدافع عن موقفه: “لن أتراجع عن قول الحقيقة”
ورغم الضغوط، فإن جان ميشيل أباتي رفض التراجع عن كلماته. بل على العكس، أكد في منشور على منصة إكس (تويتر سابقًا) أنه متمسك بموقفه، قائلًا:
“أعرف أن ما قلته لا يعجب البعض، لكن الحقيقة ليست مسألة رأي. يمكنكم مهاجمتي، لكن لا يمكنكم تغيير ما حدث. على فرنسا أن تواجه ماضيها، لا أن تحاول إنكاره.”
إيقافه عن العمل واستقالته من RTL
بسبب الضغوط المتزايدة، قررت إدارة إذاعة RTL إيقاف أباتي مؤقتًا عن العمل، مما دفعه لاحقًا إلى تقديم استقالته احتجاجًا على ما وصفه بمحاولة إسكات الأصوات التي تحاول قول الحقيقة.
في بيان الاستقالة، كتب أباتي:
“أرفض أن أكون جزءًا من إعلام يخشى الحقيقة. إذا كان قول الحقائق التاريخية يؤدي إلى الإقصاء، فليكن. سأواصل الحديث عن هذا الموضوع، لأنني مؤمن بأن الاعتراف بالماضي هو السبيل الوحيد لبناء مستقبل أفضل.”
نقاش متجدد حول الماضي الاستعماري لفرنسا
لا شك أن تصريحات أباتي أعادت فتح ملف التاريخ الاستعماري لفرنسا، وهو موضوع يثير دائمًا حساسيات كبيرة في المجتمع الفرنسي.
بينما يرى البعض أن هذا النوع من النقاش ضروري من أجل مصالحة فرنسا مع ماضيها، يعتقد آخرون أن الخوض في هذه القضايا يعزز الشعور بالذنب الجماعي غير المبرر.
لكن في النهاية، تبقى الحقيقة قائمة: ما حدث في الجزائر خلال الاستعمار كان فصلًا داميًا في تاريخ فرنسا، ومع كل تصريح جريء مثل تصريحات أباتي، يقترب المجتمع الفرنسي أكثر من مواجهة هذا الماضي بشجاعة.
الخاتمة: هل ستتغير نظرة فرنسا إلى تاريخها؟
لا شك أن تصريح جان ميشيل أباتي كان بمثابة زلزال في المشهد الإعلامي الفرنسي، لكنه أيضًا يعكس تغيرًا تدريجيًا في طريقة التعامل مع ماضي فرنسا الاستعماري. فهل ستكون هذه الضجة مجرد عاصفة عابرة، أم أنها ستفتح الباب لنقاش أكثر عمقًا حول مسؤولية فرنسا في ماضيها؟
الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة على هذا السؤال.