فرنسا تلغي بث وثائقي حول الحرب الكيميائية في الجزائر قبل أن تتراجع تحت الضغط

باريس – 12 مارس 2025
في خطوة أثارت جدلاً واسعاً، أعلنت فرانس تيليفيزيون في بيان رسمي صباح أمس عن إلغاء بث الفيلم الوثائقي الجزائر، أقسام الأسلحة الخاصة، الذي كان من المقرر عرضه على قناة فرانس 5 يوم 16 مارس. هذه الخطوة، التي أتت في سياق دبلوماسي متوتر بين الجزائر وفرنسا، طرحت تساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء قرار الإلغاء، خاصة أن الوثائقي يكشف لأول مرة عن استخدام الجيش الفرنسي للأسلحة الكيميائية خلال الثورة الجزائرية.
وقد بررت المؤسسة الإعلامية الفرنسية هذا القرار برغبتها في تخصيص المساحة الإخبارية لتغطية التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا. غير أن المفارقة تكمن في إعادة برمجة عرض وثائقي آخر للمخرجة إديث بوفير بعنوان سوريا: سقوط عشيرة الأسد بتاريخ 23 مارس، بينما ظل مصير الفيلم حول الجزائر غامضاً دون تحديد موعد جديد.
غير أن الضغط الإعلامي وردود الفعل الغاضبة من الأوساط الجزائرية والفرنسية دفعت فرانس تيليفيزيون إلى التراجع عن قرارها، حيث أعلنت لاحقًا عن إتاحة الوثائقي مجانًا عبر منصتها France.tv ابتداءً من 12 مارس، مع إمكانية إعادة عرضه تلفزيونياً في موعد لاحق لم يُحدد بعد.

كشف الستار عن حرب كيميائية مسكوت عنها
يتناول الفيلم تحقيقاً تاريخياً قاده المؤرخ كريستوف لافاي بالتعاون مع المخرجة كلير بييه، حيث كشفا النقاب عن وحدات خاصة تُعرف باسم “أقسام الأسلحة الخاصة”، والتي استخدمت الغازات السامة ضد المقاتلين الجزائريين والمدنيين خلال حرب التحرير (1954-1962).
في حديثه عن جذور هذا البحث، أوضح لافاي أنه بدأ بالتحقيق في الموضوع أثناء إعداده لأطروحة دكتوراه حول الجيش الفرنسي في أفغانستان، حيث اكتشف أن بعض التقنيات القتالية المستعملة هناك مستوحاة من التجارب التي أجراها الجيش الفرنسي في الجزائر. وخلال عمله، التقى عام 2015 بالمحارب الفرنسي إيف كارنينو، أحد أفراد هذه الوحدات، والذي عانى من مضاعفات صحية خطيرة جراء تعرضه لهذه الأسلحة الكيميائية.
“لقد قتلنا بالغاز، وهذا الغاز يقتلني حتى الآن”، بهذه الكلمات القوية يلخص كارنينو تجربته في الوثائقي، مؤكداً أن هذه العمليات كانت ممنهجة ولم تكن حالات فردية.
الهدف: قتل المجاهدين ومنع المدنيين من الاحتماء بالكهوف
بحسب التحقيق، فإن استخدام الأسلحة الكيميائية بدأ عام 1956، حين وجد الجيش الفرنسي نفسه في مواجهة تكتيك حرب العصابات الذي اعتمدته جبهة التحرير الوطني، حيث لجأ المقاتلون الجزائريون إلى الكهوف والمخابئ الجبلية للاختباء وشن الهجمات.
ولتدمير هذا التكتيك، بدأت فرنسا في تطوير واستخدام غازات سامة مثل CN2D، حيث كان لهذه العمليات هدفان رئيسيان:
1. هجومي: قصف الكهوف بالغازات لإجبار المقاتلين على الخروج أو قتلهم اختناقًا في الداخل.
2. وقائي: تسميم الكهوف المهجورة بشكل دوري لمنع استخدامها مستقبلاً.
وبحسب لافاي، تسبب هذا السلاح في مقتل ما بين 5,000 و10,000 مقاتل جزائري، إضافة إلى مئات المدنيين الذين لجأوا إلى الكهوف بحثًا عن الأمان، كما حدث في مجزرة غار أوشتوث يومي 22 و23 مارس 1959، حيث قُتل 118 مدنيًا جزائريًا اختناقًا داخل كهف.
لماذا بقيت هذه الجريمة طيّ الكتمان؟
على الرغم من خطورة هذه العمليات، بقي الحديث عنها محصورًا في شهادات فردية لم تحظَ بالاهتمام الكافي. ويعود ذلك إلى عدة عوامل، أبرزها:
• التكتم الرسمي: ظلت هذه المعلومات ضمن الملفات السرية لوزارة الدفاع الفرنسية، ولم يتمكن الباحثون من الوصول إليها إلا لفترة قصيرة بعد قرار الرئيس فرانسوا هولاند فتح أرشيف حرب الجزائر عام 2012، قبل أن يتم إغلاقه مجددًا في 2019 تحت ذريعة حماية “أسرار الدفاع الوطني”.
• التضييق على الباحثين: يشير لافاي إلى أن الباحث رومان شورون، الذي كان أول من كشف عن هذه العمليات، تعرض لمداهمة من قبل جهاز المخابرات الداخلي الفرنسي (DGSI)، مما أجبره على التوقف عن البحث.
هل تعترف فرنسا بهذه الجرائم؟
رغم التصريحات الرسمية المتكررة عن “رغبة فرنسا في المصالحة مع تاريخها الاستعماري”، إلا أن الاعتراف بجرائم الحرب التي ارتكبتها في الجزائر لا يزال محدودًا. فبينما أقر الرئيس إيمانويل ماكرون بأن الاستعمار كان “جريمة ضد الإنسانية”، إلا أن الدولة الفرنسية لم تقدم أي اعتراف رسمي باستخدام الأسلحة الكيميائية خلال الحرب.
وعن هذه النقطة، يوضح لافاي: “لا أعتبر نفسي ناشطًا، بل مؤرخًا، ومهمتي هي كشف الحقائق. لكن في فرنسا، البحث في تاريخ الجزائر لا يزال صعبًا بسبب الحساسيات السياسية”.
ماذا بعد؟
رغم الجدل الذي أثاره قرار إلغاء بث الوثائقي، إلا أن طرحه على منصة France.tv يعد خطوة أولى نحو كسر الصمت حول هذا الملف التاريخي. لكن يبقى السؤال مطروحًا: هل ستجرؤ السلطات الفرنسية على مواجهة ماضيها الاستعماري والاعتراف بهذه الجرائم؟
في المقابل، يؤكد الجزائريون الذين شاركوا في الفيلم أن المطلوب ليس اعتذارًا أو تعويضًا ماليًا، بل الحقيقة فقط. فهل تكون هذه القضية بداية لمصالحة تاريخية حقيقية، أم أنها مجرد موجة إعلامية سرعان ما ستتلاشى؟